ما هو القانون و تاريخ فكرة تطور القانون في الشرائع المختلفة الجزء الثالث


  مصادر القواعد القانونية في عهد القواعد الدينية

اولا: دور رجال الدين فى مجال نشأة القاعدة القانونية 

* الاحتكام الى رجال الدين

  منذ اواخر عصر القوة السابق الحديث عنه كان لدى المجتمعات اتجاة نحو الاحتكام الى رجال الدين و اصبح هذا واجبا بعد اكتشاف الزراعة و ما نتج عنها من نظام و تم التخلى عن القوة و كان الاحتكام الى شيوخ القبائل و رؤساء الاسر  بصفتهم رجال دين و حتى بعد اندماج الاسر و القبائل و ظهور الدولة فإحتكم الناس الى رجال الدين فيما يثار بينهم من منازعات و سوف نشرح ذلك على النحو الاتى :

      * نبذ القوة داخل الجماعة 

            بعد اكتشاف الزراعة و الاعتماد عليها اصبح للفرد كيان و مصالح منفصلة أو متميزة عن بقية افراد الجماعة و كان الاعتراف للفرد بحقوق خاصة ،و ظهرت فكرة احترام حقوق الاخرين و نتيجة لذلك نبذ المجتمع فكرة القوة و فضلوا عليها فكرة مثل التحكيم أو الالتجاء الى رجال الدين ليفصلوا بين الناس فيما شجر بينهم و فيما اختلفوا فيه فالمصالح الان اهم بكثير من فكرة الانتقام الفردى الذى تبين للانسان فى هذا الوقت اضرار الالتجاء اليه .

      * المكانة الخاصة لرجال الدين فى المجتمع

   كما سبق و اسلفنا أن الناس كانوا يخشون غضب الالهة و كان رجال الدين يمثلون الالهة على الارض أو انهم هم الوسطاء بين الالهة و باقى البشر و هم من يعلمون الطقوس و العبادات و بالتالى كان لهم مكانة بين الناس بل كان فى احيان كثيرة هم من يحتكرون العلم و المعرفة.

      * الديانات بين طقوس العبادة و مظهر القوة:

   كان رجال الدين لا يأمرون الناس بأعمال لا يستطيعون القيام بها بل كان مجرد جعلهم ينطقون ببعض الصيغ و اداء بعض الطقوس التى لا تختلف فى جوهرها عن مظهرا صوريا لاعمال العنف التى كان يلجأ إليها الانسان فى استيفاء ما يراه حقا له ، و استقرت هذه الطقوس و الافعال و الفها الناس بالتدريج ،و مع الوقت لم يستطيع الناس ولا رجال الدين التمييز بين طقوس و صيغ و شعائر العبادة و بين ما يخص التصرفات القانونية و اجراءات التقاضى فاكنت السرية هى الحليف لرجال الدين و كان هذا السر مدونا كان أو مكنون فى صدور رجال الدين أنفسهم و كان نتيجة ذلك أن احاطت الديانة بكل صور السلوك فى المجتمع سواء كان ماهو من قواعد دينية أو اخلاقية أو قانونية.فتنظيم العلاقات الاجتماعية بين الناس و الساسية و القانونية اصبح من اختصاص رجال الدين و نسبوا تلك القواعد الى الاله أو الالهة ، و ذلك لان الناس لم يكونوا يتصورون أن تكون قاعدة السلوك تنشأ بطريقة عقلانية تحت تأثير ظروف المجتمع من اقتصاد و ظروف اجتماعية بل كان الاعتقاد ان القواعد السلوكية بمجموعها من عند الالهة و خضع الناس للقواعد التى تأتمنهم عليها الالهة .

 * الديانة تحمى الحق و تنشئه

تطور الاحكام التى قررتها الديانات و رجال الدين من احكام فردية الى احكام عامة مجردة تأخذ شكل من اشكال القواعد القانونية بل و اعتمادهم فى اصدار الاحكام على السوابق القضائية .

    فى بداية الامر كان الحكم الصادر من رجل الدين فى المنازعة التى ينظرها و المعروضة عليه من قبل الافراد والحكم الذى كان يصدره فيها كان بمثابة حكم الاهى يصدر فى كل واقعة على حدة و لم يكن تطبيقا لقاعدة عامة مجردة و كان يرجع للالهه لاستطلاع رأيها .

     و بعد ذلك جاء طريق تطبيق السوابق القضائية و لكن ليس عن ارادة او رغبة من رجال الدين انما لوقوع وقائع متشابهة باطراد ملحوظ جدا فكان رجال الدين يراعون تطبيق احكامهم السابقة على تلك الوقائع المتشابهة فى الصفات و الغايات و بذلك اصبح الحكم الصادر من رجال الدين يؤسس على السوابق القضائية و مع الوقت بعد عن الالتجاء إلى استطلاع الالهة فى كل حالة على حدة و كان الاعتماد على الذاكرة الخاصة برجال الدين فى امدادهم بالسوابق القضائية و ذلك قبل اكتشاف التدوين و بالرغم من تطور الفكرة الى تعميم الاحكام الا انه ظلت الديانة هي المصدر لهذه الاحكام .

     و بعد مضى  فترات من الزمان و تكرار تلك الاحاكم انتقلت بعض العبارت و الصيغ و من حكم الى اخر فأصبحت اقوال مأثورة تجرى على السنة الناس من جيل الى جيل و بمضى الزمن صيغت هذه الاقوال فى اسلوب شعرى فسهل استيعابها و اصبحت صيغا مالوفة بين الناس الذين تناسوا الظروف و الملابسات التى صدرت فيها هذه الاحكام و بهذا اصبحت قواعد السلوك قواعد عامة مجردة و لكنها دينية و مقدسة فى هذا العهد 

* العقوبة أو الجزاء

بعد ان تبين ان رجال الدين هم الذين يقوموا بوظيفة المشرع و المحكم و على الرغم من ان القواعد التى كانوا يقرونها كان لها من القدسية ما يوجب على الافراد احترامها الا انه فى نهاية الامر فهى احكام محكمين و كان من الافراد من يخضع لحكمها و من لا يخضع لها الا ان رجال الدين قد وجودا طريقة لحمل الناس على تنفيذ هذه الاحكام و قد تنوع الجزاء على وجهين كالاتى :

أ- الجزاء الاخروى : فى بداية الامر كان افراد المجتمع يحترمون القواعد الدينية و الطقوس و الاحاكم التى كان يصدرها رجال الدين بل و يقوموا بتنفيذ الاحكام من تلقاء انفسهم و ذلك لان الوازع الديني كان مستقرا فى نفوسهم و الوسائل التى لجأ اليها رجال الدين على حمل الناس على هذا الاحترام و حفظ النظام تخلص فى أمرين هما الاساطير و المحرمات ويتمثل دور الاساطير فى خلق العقيدة فيما وراء الطبيعة و اظهار قدرة الالهة على انزال العقاب بالناس حينما يخالفون القانون واثابتهم حينما يطيعون القواعد و القانون فخوف الانسان من العقوبة و طمعه فى المثوبة حفظ النظام فى المجتمع. 

ب- الجزاء الحال:لم يكتفى رجال الدين بما اقروه من اساطير و ما سوف يحدث للانسان من عقاب اذا ما خالف القواعد الدينية فى الدنيا و الاخرة و ما سوف يتحقق له من منافع و اثابة اذا ما طبق القواعد و سار عليها بل اتخذ رجال الدين خطوة ايجابية لاجبار الناس على احترام القواعد و هى الجزاء الحال المنظم الذى يوقعوه على المخالف للقواعد و التعاليم و قد اتخذ عدة صور مثل الطرد من حرمة الالهة و اخراج المذنب من عباءة الدين او انزال اللعنة عليه من قبل الالهة و و يترتب على ذلك نفى المذنب من دائرة الجماعة فيصبح دمة مهدورا و ماله مباحا لمن يظفر به ولا يجوز مساعدته او حمياته و من امثلة ذلك القانون اليهودى و الجرمانى .و هذا النظام يشبة فى المسيحسية ما يعرف بإسم اللعن و المعروف فى الشريعة اليهودية بأسم السخط و فى العصر الحالى يشبة التجريد من الجنسية لكن بصورة اشد عنفا و قسوة. 

   و فى مرحلة لاحقة تجاوزت الديانة هذا الموقف السلبى و قررت تحريم بعض التصرفات و الافعال مثل تحريم القتل فى فصول معينة من السنة أو الصيد فى اوقات معينة أو الحرب فى اوقات معينة بل و حرمت تصرفات تحريما كاملا مثل زنا المحارم أو القتل بالسحر و غير ذلك و حرمت ابرام التصرفات القانونية أو رفع الدعاوى القضائية فى أوقات معينة مثل ما هو كان فى القانون الرومانى .

و من القواعد و الخطوات الايجابية التى قررها كذلك رجال الدين "الرهان" قد يطلب رجل الدين من المتنازعين ضمانات مثل تسليم مال على سبيل الرهن أو يسلم كفيلا موثوقا بذمتهة فإذا صدر الحكم لصالح احدهما استطاع بمعاونة رجال الدين استيفاء حقة من المال المرهون أو حبسة لدية حتى يوفى ما عليه و لهذا النظام آثار واضحة فى القانون الرومانى فى ظل نظام دعاوى القانون حيث نجد دعوى الرهان و نظام تقديم كفلاء النفس و المال ، و من تطبيقاته فى الفقة الاسلامى نظام كفيل النفس و كفيل المال .

    و من تلك النظم كذلك التنفيذ المباشر ظهر فى شعوب كثيرة مثل القبائل الصلتية و مضمون هذا النظام اصطحاب الدائن الى منزل المدين و يستولى على بعض مالة بصحبة رجال الدين و يتولى الدائن بيع ما استولى عليه من المدين و يقتضى حقة من ثمن البيع و هذا النظام نواة ما يعرف الان بما يسمى الحجز على مال المدين. و قد يحل رجل الدين محل الدائن حيث يوفى للدائن دينة من مالة الخاص و بعد ذلك يطالب المدين بقيمة الدين و بذلك نشأت نظام حوالة الحق فى الوقت الحالى و فى الحالتين السابقتين لا يجرؤ احد على معارضة رجل الدين لما له من سلطة و نفوذ و كذلك خوفا منه و اتقاءا لغضبة.

 :ثانيا :الاسباب و الاثار المترتبة على نسبة القانون للدين 

1- اسباب نسبة القانون بالديانة:

تعددت نسبة القانون للآلهة منها اسباب اجتماعية و ذلك لان الانسان القديم كان عاجز عن فهم و ادراك أن القانون ينشأ بطريقة عقلية بتأثير الظروف البيئية المحيطة به و ان انشاء قاعدة سلوكية تضبط المجتمع هو شئ خارج لا يأتى الا من قبل الآلهة حيث رأى الانسان القديم أن القواعد التى تحكم السلوك مثلها مثل الظواهر الكونية التى تحيط به.

    و كذلك اسباب نفسية حيث انه كان للسلطة الدينية شأن عظيم فى نفوس الجماعة و لذلك كان الانسان يمتثل لأوامر الدين دون مناقشة و رجال الدين انفسهم أمنوا انهم اداة فى يد الآلهة تنقل عن طريقهم ما تشاء من تعليمات ، و كان نتيجة ذلك ان المشرعون نسبوا قوانينهم الى الآلهة فى عهد المدنية حتى و لو كانت صادرة منهم انفسهم و كان ذلك فى الغرب و نرى ذات الظاهرة فى الحضارة البابلية حيث وصفوا قانون حمورابى على انه من عند الإله انزله على الملك حمورابى و فى مصر القديمة كذلك .

2-الاثار المترتبة على ربط القانون بالديانة:

أ- العقوبة و الجزاء:

كان هناك اخطلاط بين قواعد السلوك فاخطلطت القواعد القانونية بالقواعد الدينية بالقواعد الاخلاقية من حيث نطاق و مضمون كل منهم  من حيث الجزاء و لذلك طبقت كثير من الشرائع القديمة مثل القانون الرومانى و الجرمانى و الهندى جزاءا دينيا كالطرد من رحمة الآلهة أو اللعنة على من يخالف قاعدة تعتبر قانونية بطبيعتها فى مفهومنا الان فى القانون، و بعض الشرائع توقع جزاء دينى بجانب الجزاء الدنيوى ضد من يخالف قواعد قانونية بحتة و تظهر هذه الفكرة كثيرا فى الشرائع السماوية  و فى بعض الحالات تقترن القاعدة القانونية بجزاء مزدوج دينى و مدنى كما فى الشريعة الاسلامة فى كثيرا من الحالات حتى و لو كان الجزاء اخرويا أو فى الحياة الدنيا مثل الكفارات.

ب- السلطة الحاكمة فى ظل ربط القانون بالديانة:

   الشعوب القديمة لم تعرف سبل و طرق الحكم و الساسية التى نستخدمها اليوم مثل مبدأ الديمقراطية أو ما يستخدم اليوم من مبادئ و افكار معاصرة فمبدأ السيادة لم يكن للشعب بل كان يرد الى الديانة ، فسلطة الحاكم يستمدها من كونة إله أو ممثل لآلهة أو مفوض منها فى حكم الشعب - النظرية الثيوقراطية - فالشعب لم يختاره و بالتالى لا يملك محاسبته أو عزله بل الآلهة هى التى نصبته حاكما و يستمد منها القوة و السلطة ،و كان ملوك و حكام مصر الفرعونية آلهة بين البشر ، و فى بابل كان الحاكم ممثل للآلهة على الارض ، و ملوك اليهود اصطفاهم الإله و ملوك الرومان و الاغريق كانوا يحكمون بإسم الآلهة قبل انفصال السلطة الزمنية عن السلطة الدينية فكانت ذاتهم مقدسة و نفسها هذه النظرية التى حكم بها ملوك اوروبا حتى قيام الثورة الفرنسية و هى نظرية الحق الإلهى .

  و نرى الاساس الدينى لسلطة الحكم واضحا فى فترة الحكم البابوى فى اوروبا فى العصور الوسطى اذ أن بابا روما يدعى انه ممثل المسيح على الارض ،و هذا شبه نظام الامامة عند الشيعة المسلمين فلإمام يعينه سلفه و هو معصوم من الخطأ ولا يحاسبة البشر فهو أعلى مرتبة من الانبياء و أدنى مرتبة من الرسل .

ج- عدم قابلية القواعد القانونية للتعديل :

  و كذلك ترتب على الاصل الدينى للقانون تحريم تعديله الا عن طريق الديانة نفسها و بالتالى لا يجوز الغاء تشريع إلاهى الا بتشريع مثله من ذات السلطة الإلهية و لكن فى بعض الشرائع كما كان الحال عند الرومان يلتفوا على النص بزعم تفسيره فيتم تعديلة بطريقة غير مباشرة .

  د- اقرار الحقوق و الواجبات من خلال أوامر إلهية:

كانت المجتمعات تسير داخل إطار ترسمة الديانة ففى مثال على ذلك فى القانون الرومانى القديم يأمر بأن كل ما يكسبة احد افراد الاسرة يؤول ملكيتة إلى رب الاسرة لانه يقع على عاتقه وحده عبء مواصلة عبادة الأسلاف و نفس القواعد نجد مثلها فى الشرائع المختلفة ففى الشريعة الاسلامة نجد فيها نظاما قانونيا مثل الجهاد و الزكاة و فى اليهودية نظام ملكية الارض للإله .

لقراءة الجزء الاول من عهد القواعد الدينية اضغط هنا

لقراءة اول موضوع في قسم تاريخ القانون اضغط هنا

الجزء التالي هنا

تعليقات

تابعنا عبر فيس بوك

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخص كتاب فن المرافعة / تعرف على ادوات تساعدك في اعداد مرافعة رائعة

الذكاء الاصطناعي AI والاحتيال على الانترنت وبوسائل الاتصالات

الأمن القومي المصري / المخدارات خطر يهدده حالاً ومستقبلاً